صراع الحلال.. بين حرية الدين وحقوق الحيوان في أوروبا
عقب صدور قرار نهائي بحظر الذبح الحلال في بلجيكا
بعد جدل استمر نحو عقد من الزمن، حسمت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان الأمر بإصدار قرار نهائي بشأن حظر الذبح الحلال في بلجيكا، ورفضت طلب إعادة النظر بالقرار.
وأعاد الحكم القضائي الحديث مجددا داخل القارة العجوز حول حرية الدين والمعتقد، لا سيما حول الذبح الحلال لدى المسلمين و"الكوشر" لدى اليهود والمتفق عليه مع معتقداتهم الدينية.
ولأول مرة ظهر قانون منع الذبح في أوروبا عام 1933، عندما حظر النازيون الذبح الـ"الكوشر" لليهود، وتعرض له المسلمون مع تصاعد مخاوف الإسلاموفومبيا وصعود اليمين المتطرف.
ويقصد بالذبح "الحلال" هو ذبح الحيوانات والطيور بحسب الشعائر الإسلامية، بحيث يجب إسالة دمائها قبل تناولها، لكن جماعات الرفق بالحيوان في أوروبا تدين هذا الأمر وتقول إن الأفضل صعق الحيوانات قبل قتلها.
وتنعت طريقة الذبح لدى تعاليم الدين الإسلامي بـ"الحلال"، بينما في العقيدة اليهودية باسم "الكوشر" (أي المباح أو المناسب أكله).
وبات الذبح الحلال ورقة رئيسية تتداول على المنابر السياسية أثناء الانتخابات وداخل ساحات القضاء بأوروبا، لا سيما من قبل تيار اليمين المتطرف الذي عادة ما يتهم بتوظيف ملف حقوق الحيوان في التضييق على الأقليات.
وبحسب دراسة أعدها ونشرها مركز "Pew Research" الأمريكي، في مايو 2018، فإن مشاعر التوجس من الإسلام يساويها مشاعر كراهية لليهود بين الأوروبيين في 15 دولة بالقارة العجوز، إذ أظهرت الدراسة أن نسبة كبيرة من الألمان والإيطاليين والإنجليز لا يتقبلون فكرة وجود فرد يهودي أو مسلم بين أفراد أسرهم.
ويقع الإصرار على الذبح الحلال أو "الكوشر" ضمن حرية الدين والمعتقد للجاليات المسلمة واليهودية في أوروبا، لكن يتم رفضه تحت بند احترام حق الحيوان.
حرية الدين هي الحق في اعتناق الفرد أي دين يختاره وإظهار دينه في العبادة من دون تدخل لا مبرّر له، وهذا الحق الأساسي مكفول بموجب المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والإعلان بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد.
وتقول الأمم المتحدة إن حرية الدين أو المعتقد لها أبعاد عديدة تتقاطع مع الحقوق الإنسانية الأخرى، مثل الحق في حرية التعبير أو الحق في الحياة.

خلافات عقائدية
وفي الثاني من يوليو الجاري، أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، قرارا بالدعوى المرفوعة من منظمات إسلامية ويهودية، ضد حظر الذبح الحلال في بلجيكا، ورفضت طلب إعادة النظر بقرار الحظر.
وفقًا للبيان الصادر عن منظمة (جايا) GAIA لحقوق الحيوان في بلجيكا، فإن قرار المحكمة الأوروبية "نهائي ولا يعتبر الحظر يشكل انتهاكا لحرية الدين وأغلق القضية" التي تمس أعدادا كبيرة من المسلمين واليهود في أوروبا.
وتشير الأرقام التي نشرها معهد بحوث السياسة اليهودية الذي يتخذ من لندن مقرا في عام 2020، إلى أن 1.3 مليون يهودي يعيشون حاليا في أوروبا، أي ما يقارب 0.1 بالمئة من إجمالي سكان القارة، بينما أفادت دراسة لمركز بيو الأمريكي للأبحاث، بأن عدد مسلمي أوروبا بلغ 25.8 مليون شخص، أي نحو 5 بالمئة من سكان أوروبا.
ودينيا وتاريخيا، يسمح في الإسلام واليهودية، بأكل لحوم الحيوانات والطيور التي تذبح في حالة وعي تام من عنقها بسرعة بسكين حاد، ويجب أن تكون الذبيحة سليمة صحيًا وينبغي ذبحها مع إسالة دمائها وعدم استخدام عملية الصعق الكهربائي أو التخدير قبل عملية الذبح.
غير أن هذه الطريقة واجهت انتقادات عديدة في دول أوروبية ترى أن في ذلك إيذاء وتعذيبا للحيوان، ونادت عبر قوانين وخطابات سياسية بحظر الذبح الحلال، والتمسك بتخدير الحيوان أو صعقه قبل عملية الذبح حتى لا تشعر بالألم، وتلك الطريقة الأوروبية، التي تدعمها منظمات حقوقية محل رفض الديانتين الإسلامية واليهودية، لما يترتب عليها من وصف الذبيحة بالميتة وهي محرمة أكلها لديهما.
وقرر المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، في أغسطس 2019، عدم جواز تناول لحوم الدواجن والأبقار بعد استعراض طرق الذبح المتبعة في أوروبا وما يتضمنه الكثير منها من مخالفات شرعية تؤدي إلى موت عدد غير قليل من الحيوانات، داعيا الدول الغربية إلى الاعتراف بالخصوصيات الدينية للمسلمين وتمكينهم من الذبح حسب الشريعة الإسلامية.
وتحرم الديانة اليهودية أيضا أكل الحيوان أو أي جزء منه قبل الذبح والتأكد من موت الحيوان، لذلك لا يحل أكل الحيوان إلا بعد إخراج الدم منه بطرق خاصة طبقا للشريعة اليهودية، كما أنها تحرم أكل الحيوان غير المذبوح على الشريعة اليهودية، والميت والمريض والمصاب من قبل حيوان مفترس.
ورغم أن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، تضمن الحرية الدينية، فإن القانون الأوروبي ينص على اعتماد قواعد تضمن حماية أكبر للحيوانات ووجوب تخدير الحيوان أو صعقه قبل الذبح، بحيث تضمن فقدان وعي الحيوان وتجنب تعذيبه ومعاناته، مع استثناءات تتعلق بالذبح وفق قواعد دينية.
وتنص المادة 205 من لائحة المعلومات حول المواد الغذائية في الاتحاد الأوروبي، على وجوب ذكر الطريقة التي قُتل بها الحيوان على جميع العبوّات، وبالتالي فإن تلك المادة تراعي التباين في المعتقدات بشأن طريقة ذبح الحيوانات والطيور.
ورغم ذلك، فقد حظرت دول أخرى في الاتحاد الأوروبي كالدنمارك وبلجيكا والسويد وسلوفينيا الذبح التقليدي، غير أنه لا يزال يسمح بالذبح الحلال حسب الشرائع الدينية، في كل من: ألمانيا، وفرنسا، والنمسا، وهولندا، واليونان، وإسبانيا، وإستونيا، وفنلندا، وبولندا.
وعلى هذا النحو، استمر الخلاف الدائر بين فريقين، الأول يرفع حججا دينية ترى أن صعق أو تخدير الحيوان قد يؤدي إلى موته ويحرم تناوله، وفريق آخر يرى عكس ذلك تحت لافتات حقوق الإنسان وأجندة تيار اليمين المتطرف.

عشرية المعارك
ولا تزال معارك حظر الذبح الحلال، تحافظ على حضورها منذ أكثر من 10 سنوات في الأوساط القضائية والإدارية والسياسية بأوروبا، لا سيما في دولة بلجيكا التي يشكل المسلمون واليهود فيها نحو 6 بالمئة من مجموع عدد السكّان البالغ نحو 11 مليون نسمة.
وفي فبراير 2014، قررت الدانمارك منع الذبح وفق معتقدات المسلمين واليهود، وفرض صعق الحيوانات قبل عملية ذبحها، إذ قال وزير الزراعة والأغذية الدانماركي، دان يورجنسن آنذاك إن "حقوق الحيوانات تأتي قبل الدين"، نافيا أن ذلك القرار يتناقض مع مبدأ الحريات الدينية.
وفي مواجهة هذا القرار، أطلقت منظمة "دانيش حلال"، التي تضم 56 مؤسسة مسلمة، حملة جمع التوقيعات الرافضة له، فيما اتهم نائب وزير الطقوس الدينية الإسرائيلي، إيلي بين داهان، القرار الدانماركي بأنه "معاد للسامية".
وفي مايو 2017، وافقت لجنة البيئة في برلمان منطقة والونيا، في الشطر الجنوبي من بلجيكا، على مشروع قانون يحظر ذبح الحيوانات والطيور دون تخديرها.
واعتبر رئيس مجلس يهود أوروبا، موشيه كانتور، في بيان آنذاك أن "المدافعين عن الرفق بالحيوان يقولون إن هذه الطريقة تحمل قسوة على الحيوانات، لكنها أكثر إنسانية من الطرق الميكانيكية المستخدمة في المسالخ غير الموافقة للشريعتين اليهودية والإسلامية".
وذكّر كانتور بمحرقة الهولوكوست، قائلا: "آخر اعتداء على الطقوس اليهودية في الذبح، كان في أكتوبر 1940 في ظل الاحتلال النازي؛ لأن النازيين كانوا يعرفون مدى أهمية طريقة الذبح بالنسبة لليهود".
وعلى صعيد متصل، استنكر اتحاد مساجد شارل لوروا جنوب بلجيكا مشروع القانون، بينما اعتبره رئيس مؤسسة ديانات بلجيكا جوشكونبيازغول، بأنه "لا يهدف إلى ضمان احترام مبدأ الرفق بالحيوان، بقدر ما يهدف إلى حظر أحد أهم الشعائر الدينية للمسلمين في بلجيكا، بل ويستهدف الإسلام والمسلمين مباشرة".
وفي يوليو 2018، قال وزير البيئة النمساوي اليميني غوتفرايد فالدهوسل، إنه يريد أن يحد من ذبح الحيوانات بطرق غير الصعق الكهربائي، مؤكدا أن هذا أمر تقتضيه "وجهة النظر التي ترعى رفاهية الحيوان"، فيما وصف مكتب برلين للجنة اليهود الأمريكيين ذلك التصريح بأنه "هجوم على حياة اليهود والمسلمين".
وشهدت مناطق عدة في بلجيكا بين عامي 2018 و2019، تطبيقا لحظر الذبح الحلال، باستثناء وحيد في العاصمة بروكسل.
واعتبر بانشا غولدشميدت، وهو أحد مسؤولي الجالية اليهودية في شمال بلجيكا، القرار الأحدث الذي طبق في بلجيكا عام 2019 بأنه يمثل "يوما أسود في تاريخ الحريات الدينية"، لافتا إلى "غياب التسامح تجاه الأقليات".
وفي عام 2020، أيدت محكمة العدل الأوروبية أعلى محكمة في الاتحاد الأوروبي حظراً على طريقة الذبح الإسلامي واليهودي للحيوانات بدون صعق في إقليم فلاندرز في بلجيكا.
وفي هذا اليوم، قال الوزير القومي اليميني للرفق بالحيوان بحكومة الإقليم بين ويتس: "إننا اليوم نكتب التاريخ"، بينما قال ميشال فاندنبوش رئيس مجموعة غايا لحقوق الحيوان إنه "بعد أكثر من 25 عاماً من كفاح لا يستكين اليوم هو يوم عظيم لمئات آلاف الحيوانات، التي بفضل هذا القرار سوف يتم تجنيبها الآلام الرهيبة للذبح بدون صعق لأسباب دينية".
في المقابل، اعتبر رئيس رابطة يهود أوروبا، الحاخام مناحيم مارغولين، يوم صدور الحكم "يوماً حزينًاً ليهود أوروبا"، فيما انتقدت الخارجية الإسرائيلية، الحكم الذي قالت إنه "يبعث برسالة قاسية إلى جميع يهود أوروبا ويضر بحرية العبادة والدين".
كما اعتبرت لجنة التنسيق البلجيكية للمؤسسات الإسلامية، في بيان القرار يمثل "خيبة أمل كبيرة"، مؤكدة أن "محكمة العدل قد استسلمت للضغوط السياسية والمجتمعية المتزايدة من الحركات الشعبوية التي تشن مقاومة رمزية ضدّ الأقليات الضعيفة في جميع أنحاء أوروبا".

تحركات فرنسية حثيثة
وفي يوليو 2021، سعت وزارة الزراعة والأغذية الفرنسية إلى فرض شروط على عملية ذبح الدواجن والحيوانات، إلا أن عمداء المساجد الكبرى في باريس وإيفري وليون، احتجوا على هذا القرار معتبرين تلك الشروط المتلوية ستشكل "عقبة خطيرة أمام حرية ممارسة العبادة".
ورغبة في الاحتواء وعدم التصعيد، سارعت الوزارة الفرنسية إلى نفي ما ورد، مؤكدة أن الضوابط الجديدة لذبح الدواجن تهدف إلى حماية الحيوان قبل عملية الذبح مع احترام الشرائع الدينية المختلفة دون غش تجارى، في إشارة إلى لجوء بعض المجاوز التي تكتب على منتجاتها علامة "حلال" لكنها تقوم بعملية الذبح بعد الصعق الكهربائي الخفيف.
وفي أبريل 2024، أظهر مقطع فيديو بثته جمعية فرنسية للرفق بالحيوان L214، صورا لذبح الماشية من دون تخدير، مشيرة إلى أنها تذبح على الطريقة الإسلامية.
وطالبت الجمعية آنذاك بإلغاء الإعفاء الذي يسمح بذبح الحيوانات من دون تخدير، مشيرة إلى رغبتها في مناقشة هذه المسألة خصوصاً مع ممثلي المسجد الكبير في باريس والهيئة المسؤولة عن الطقوس اليهودية في فرنسا.
مذاق انتخابي
وعرفت أزمة الذبح "الحلال"، أكثر مع ارتفاع أصوات من تيار اليمين المتطرف في أوروبا، لا سيما أثناء الانتخابات، وكانت رئيسة "التجمع الوطني"، المحسوب على اليمين المتطرف الفرنسي، مارين لوبان، ممن دعت مرارا لحظر الذبح الحلال في بلادها.
وكان ذلك الاستغلال الانتخابي واضحا، وفق ما أوردت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية في افتتاحية عام 2019، قائلة إنه "ينبغي لأولئك الذين يهتمون حقا برفاهية الحيوان أن يكونوا حذرين من جعل الأمر قضية عامة مع القوميين اليمينيين الذين تهدف نواياهم المعادية إلى جعل الحياة أكثر صعوبة للأقليات الدينية".
ولفتت الصحيفة الأمريكية آنذاك إلى أنه لا يمكن إجراء حوار حقيقي بشأن الموازنة بين حقوق الحيوان والحريات الدينية إلا إذا كان خاليا من التعصب الخفي.
ورأت الصحيفة أن السياسيين اليمينيين في العديد من الدول استخدموا ضوابط على مثل هذه الممارسات الدينية لإقحام أجندات متعصبة تحت غطاء الدفاع عن الحقوق المدنية وحقوق الحيوانات.
ولفتت إلى أنه في حالة بلجيكا فإن أول من أثار فكرة الحظر هو بن وايتس، وهو قومي فلمنكي يميني ومسؤول أيضا عن رفاهية الحيوان في حكومة إقليم فلاندر التي فرضت الحظر.
وأشارت الصحيفة إلى أن قانون طرق الذبح الرحيم لعام 1958 في الولايات المتحدة حل هذا الخلاف بإعلانه أن طريقتي الإسلام واليهودية متساويتان في كونهما رحيمتين مثل الصعق.
وينذر تقدم اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية والفرنسية بإمكانية التوجه نحو فرض قيود أكبر في هذا الملف، الذي يثير حفيظة المسلمين واليهود على السواء.